معركة التنوير معركة طويلة النفس، مسابقة ماراثون وليست مسابقة جرى مائة متر، معركة لها فاتورة باهظة التكاليف، وضريبة غالية أحياناً تكون خصماً من أمنك وسمعتك وحياتك نفسها، معركة تحتاج فيها كل الأسلحة، ولكى يحدث التغيير لا بد أن تكون الأسلحة فى أيدى فريق متكامل لا فى يد دكتاتور مستبد، الفريق فيه العلمانى ورجل الدين، السياسى وعالم الاجتماع، الفيزيائى والفنان، الشاب والكهل.. إلخ، حتى الأطفال نحتاجهم فى فريق التنوير، ممنوع التعالى والفوقية فى معركة التنوير، وهذا ما فعله برنامج «نور الدين» الذى يلتقى فيه فضيلة الشيخ على جمعة يومياً مع الأطفال، ويجيب عن أسئلتهم التى تحمل حيرة شديدة فى عالم بالغ التعقيد.التنوير لا يتم تسوله من المقصورات الملكية، ولكنه معركة شارع، معركة وعى، لذلك كان مهماً أن يتصدى الإعلام ممثلاً فى الشركة المتحدة لإنتاج مثل هذا البرنامج، ما يثبت أن هناك حراكاً فى اتجاه التصدى لأفكار التطرف واجتثاث جذور الإرهاب، الذى هو فكر فاسد قبل أن يكون حزاماً ناسفاً أو كلاشينكوف قاتلاً، أدت ضغوط تيار التنوير إلى إعادة تشكيل الوعى، وتغيير عقليات كثيرة، واستجابة تيارات مختلفة بما فيها رجال دين، زادت مرونة فتاواهم، واتسعت صدورهم للحوار والنقاش، وطرح علامات الاستفهام، وهذا كله يصب فى صالح التحضر والحداثة والاندماج فى العالم الجديد الذى لم يعد يقبل الفكر الجامد المتزمت، والإجابات المحنطة سابقة التجهيز.على الرغم من أننا ما زلنا فى بداية البرنامج، فإن أسئلة الأطفال أثارت كثيراً من الجدل، وحرّكت المياه الراكدة، وتحركت لجان التخلف الإلكترونية للهجوم على البرنامج واتهام أصحابه بالتفريط فى الدين، وكأن هؤلاء المتزمتين الرجعيين قد ورثوا الدين عزبة خاصة لقطيعهم، وحصلوا على توكيلات إلهية احتكروا بها الكلام فى الدين، حتى عندما تم الرد على حجتهم الجاهزة بعدم التخصص، وتفويت الفرصة عليهم باستضافة د. على جمعة المتخصص والمفتى السابق، ظلوا يهاجمون، فهم يريدون نسخ استنساخ من ذواتهم المشوهة.كانت الصدمة الكبرى للسماسرة الدواعش، هى عندما تساءلت طفلة عن احتكار المسلمين للجنة!، الطفلة حملت حيرتها إلى الشيخ، فهى ترى زميلتها المسيحية فى الفصل، طيبة ورقيقة، هى تحبها، ولكن البعض يقولون لها هذه الفتاة لن تدخل الجنة!، تتساءل البنت لماذا؟، تسمع أوصافاً مثل الكافر والزنديق.. إلخ، مصطلحات تصدمها، لكنها اطمأنت حين جاءتها الإجابة التى طبطبت على روحها، ولمست إحساسها الحقيقى الداخلى الذى كان يهتف «الله لا يطرد من رحمته أنقياء النفس، أصحاب الأرواح الطاهرة»، قال لها الشيخ إنه لا أحد يحتكر الجنة، حضن أمان، وبقعة ضوء مسحت ظلاماً دامساً، وأثر فتاوى ظلامية قاسية عنيفة متجهمة، كنا نسمعها ليل نهار، من أصحاب بوتيكات الكآبة التى جعلوها مرادفاً للورع والتقوى، كذلك الكلام عن الكريسماس وتحريم الاحتفال به، كانت الإجابة انحيازاً للبهجة، ولنبض الفرح فى شرايين الحياة، صداقة الولد والبنت، التى رسخت جماعات التطرف أنها صداقة شيطانية، بل ووصل الأمر لاغتيال شاب فى السويس بطعنة سكين فى شريان فخذه، لأنه كان يتحدث إلى فتاة على الكورنيش! واعتبروا هذا الأمر جهاداً فى سبيل الله، العبوس رسالتهم، والاكتئاب وسيلتهم، وتغليفك بكفن الرعب والخوف هو طريق سيطرتهم.كانت الإجابة إنسانية، فالصداقة السامية المحبة المليئة بالعطاء، ليست سبة أو جريمة، بل هى أعلى درجات ومراتب السلوك الإنسانى، الفكرة ذكية، وستفتح الطريق لبرامج تنويرية أخرى، بألوان طيف مختلفة، إنه الإيمان بأن الدين قد خُلق من أجل الإنسان وسعادته، وليس العكس، كل الإنجازات من الممكن أن يبلعها ويدمرها الظلامى فى لحظة، بالسواد والغل والحقد، فأفظع الجرائم هى التى تُرتكب تحت غطاء دينى، مرتكبها لا يحس بالذنب، لأنه يتخيل أن تلك الجريمة هى تنفيذ لإرادة الله، وأن الضحية قربان له! احتضنت الشاشة الدين الضمير لا الترهيب، واحتملت الشاشة فضول الطفل ولم تقمعه، وتلك هى البداية السليمة والصحيحة.